Please ensure Javascript is enabled for purposes of website accessibility
ar

Women, War and Motor Disability: Stories from Gaza

calendar_monthDate: 11/12/2024

gs7-2-png

 

تشكل الحروب والصراعات المسلحة، ومشاريع الاحتلال والاستعمار تحديات كبرى في منطقة جنوب غرب آسيا وشمال إفريقيا، حيث تثقل كاهل مختلف فئات المجتمع، وتضاعف من أعباء الدور الرعائي الذي غالباً يقع على عاتق النساء والفتيات بتنوعاتهن وتنوع سياقاتهن، وعلى الرغم من أن أهوال الحرب تطال المجتمع والبنى التحتية والمؤسسات إلا أن الأشخاص ذوي الإعاقة يعانون بشكل غير متناسب من تبعاتها، ويصبح تمييز النظام الأبوي وكره النساء أكثر وضوحاً ضد النساء والفتيات، وبالخصوص ذوات الإعاقة اللاتي يصنفهن النظام الأبوي فاقدات للأهلية وغير مفيدات أو مرغوب بهن.


يشير تقرير الأمم المتحدة إلى أن النساء والفتيات ذوات الإعاقة يواجهن صعوبات كبيرة في الوصول إلى الرعاية الصحية الكافية، بما في ذلك الصحة الجنسية والإنجابية، فضلاً عن محدودية وصولهن إلى التعليم الشامل، والتوظيف، والفرص التكنولوجية.


كما تعيش دول مختلفة في منطقتنا تصاعداً مستمرً في وتيرة العنف والصراعات المسلحة، وتزداد معها أعداد الأشخاص ذوي الإعاقة بشكلٍ مستمر بسبب الإصابات الناتجة عن هذه الصراعات، وما يصاحب ذلك من تدهور في ظروف الحياة الأساسية والخدمات الطبية.


تشير السيدة هبة حجاز المقررة الخاصة للأمم المتحدة لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة في تقرير يرصد تحديات النساء ذوات الإعاقة في المنطقة العربية أن المنطقة تشهد زيادة في معدلات الإعاقة نتيجة التعرض المتكرر للاضطرابات والصراعات المسلحة، وتؤكد على ضرورة أن تأخذ الفرق الإنسانية والمنظمات الدولية هذا الأمر بعين الاعتبار في استجابتها للأزمة.


في النصوص التالية نسلط  الضوء على التحديات الفريدة التي تواجهها النساء والفتيات ذوات الإعاقة في السياق الغزاوي الفلسطيني، حيث تشير منظمة الصحة العالمية في تقريرها الصادر في يوليو 2024 أن أكثر من 26 ألف شخص قد أصيبوا خلال الحرب الأخيرة على غزة كثير منهم من النساء والأطفال، مما يساهم في تزايد معدل الإعاقات الناجمة عن الإصابات البليغة، مثل بتر الأطراف والإصابات في النخاع الشوكي والدماغ.

-----------

علاج في ظروف استثنائية


سُجلت هذه الشهادة ضمن لقاءٍ أجرته إحدى صحفيات "مركز شؤون المرأة" الفلسطيني مع سما (اسم مستعار) في غزة بتاريخ 26/9/2024 لصالح وحدة رصد قضايا المرأة في المنطقة العربية بواسطة الشبكة العربية للمجتمع المدني النسوي.

—---------


فقدت سما، (١٦ عامًا)، والديها بعد قصف جيش الاحتلال الإسرائيلي لمنزلها بمنطقة الحسانية غرب مخيم النصيرات في وسط قطاع غزة، وبقيت تتلقى العلاج في ظروف استثنائية. إثر إصابتها و أخوتها الخمسة بجروحٍ متفاوتة.


"كنت أتحدث ذات يوم مع والدتي بأننا من الناس المحظوظين الذين لم يخرجوا من منزلهم خلال الحرب، فكل من نعرفهم من أصدقائنا قد نزحوا أكثر من مرة، فقالت لي: "لا تعرفين يا سما ماذا سيحدث بعد ذلك"، فالحال يتغير. وهذا ما حدث بالفعل، خلال نومنا، عند حوالي الساعة الرابعة صباحًا يوم الجمعة، بتاريخ ٣٠/٨/٢٠٢٤، حصل زلزال في المنزل الذي نعيش فيه، استيقظت على صوت مرعب واهتزاز، ثواني وأغمى علي، لم أشعر بشيء".


"شعرت أن نهايتي أصبحت قريبة جدًا مني، أنني في مواجهة مع الموت، قلت في نفسي انطقي الشهادتين وبالفعل كررتهما بكل هدوء، كانت دائمًا والدتي تدعى الله أن تنتهي حياتنا ونحن ننطق الشهادتين، دار هذا الأمر في رأسي، فكرت هل والدتي بخير؟ هل استجيبت دعوتها؟، كان الركام يتساقط على ويطبق الجدار على صدري، حاولت تهدئة أنفاسي، استنشقت الهواء المليء بالغبار، وانتظرت، الكثير من الأمور دارت في رأسي كانت دموعي تسيل على خدي لوحدها دون معرفة السبب، ما زلت أجد صعوبة في التنفس، شعرت أن أحدهم يقترب كأنها روح والدتي طبطبت علي، استسلمت وأغلقت عيوني وغفوت".


استيقظت الفتاة على صوت أحد ينادي: "هل هناك أحياء؟"، لم تستطع أن تتحدث فسقف المنزل مازال يطبق عليها، تذكرت أن أختها لارا (6 أعوام) كانت تنام بجانبها، حركت يدها لتتحسسها، فلم تجدها بجانبها، ثم سمعت صوتها تئن من الوجع، وبعد دقائق سمعت أحدهم يقول: هناك يد تتحرك تحت السقف، فتشجّعت على تحريك يدها أكثر، ثم سمعت أحدهم يقول: إنها لارا!، ابحثوا بجانبها لعلّنا نجد سما.


"لقد شاهدوا يد أختي، واستمر البحث عني دقائق أخرى، أسمع صوتهم وأشعر بحركتهم فوق السقف، كانوا يتحركون بسرعة وبشكل عشوائي ويزيدون الثقل على صدري، ولم أكن أستطيع أن أطلق أي صوت، استسلمت للقدر للمرة الثانية، وقلت لنفسي أكيد أنه وقت الموت، لكنني سمعت صوت خالي وهو يقول إنها يد سما، لتبدأ محاولة إنقاذي الصعبة، فالدفاع المدني لم يكن يمتلك (باقر) لرفع السقف، ومن الصعب تكسيره لأنني تحته، حاول العديد من الشباب رفع السقف عني، وباءت المحاولات بالفشل، بعد ثمانِ ساعات من معرفة مكاني وأنا تحت الركام أتألم وتنقطع انفاسي مراراً كنت أغفو وأتمنى ألا أستيقظ، لكن نفس اليد التي شعرت بها كانت تطبطب علي و تمدني بالقوة، استطاعوا إخراجي أخيرًا، باستخدام رافعات السيارات مما تسبب في خدش يدي لتزيد من آلامي". 

استهدف جيش الاحتلال الإسرائيلي منزل الفتاة بصاروخ أصاب غرفة نوم والديها بشكل مباشر فقتلهما على الفور، وانهار المنزل عليهم وعلى نازحين/ات يعيشون/ن معهم، خرجت سما مصابة بكسر في الحوض، وبالفقرة الخامسة والسابعة من الظهر، مع جرحِ عميقِ في أعلى الفخذ لدرجة أن العظم كان ظاهرًا، كما تصف. 


"دخلت عدة عمليات لم تنجح في عودتي للحركة رغم أنه من الممكن أن أعود للحركة إذا أجريت لي عملية صحيحة، ولكن حتى الآن لا أستطيع أن أتحرك نهائيًا، حتى التحرك يمينًا وشمالًا لا يمكنني أيضًا، أصبحت مشلولة بشكل كامل، مع تقرحات صعبة في الفخذ، لا يُجدي معها أي علاج، أجريت عملية ترقيع للمكان دون فائدة، فإمكانات مستشفى شهداء الأقصى التي أتواجد فيها ضعيفة جدًا". 


"أحتاج إلى العلاج في الخارج لأعود للحركة، والإشراف والمساعدة في تربية إخوتي الذين أصبحوا أيتام، ويعيشون حاليا في منزل خالي، ما زاد مشكلتي أنه لا أقارب لي غير خالي، فكل أعمامي وعماتي يسكنون في الخارج وليس لي غير خال واحد وخالة متوفية، لا يوجد شخص يرافقني في مرضي فخالي يهتم بأخوتي المصابين بإصابات مختلفة و يتنقل معهم من المستشفى للعيادات الخاصة بحثًا عن علاج لهم، ومن بينهم لارا التي استأصلوا الطحال لديها، ووضعوا البلاتين في قدمها بسبب كسر مضاعف، ويحاول خالي علاجها حتى لا يتم بتر ساقها لتكمل حياتها بشكل طبيعي، ألا يكفي أنني أنا أصبحت بحاجة لمن يساعدني و يساندني".


"لم يجد خالي غير ابن خالتي الوحيد محمد العشريني ليرافقني أثناء خروج خالي لمتابعة أحوال إخوتي، وأنا أحتاج لتقليب جسمي كل ربع ساعة بسبب التقرحات في أعلى الفخذ حيث يضطر لينادي على مرافقات المرضي في القسم لمساعدتي، أشعر بالخجل منه، فبسبب التقرحات والجروح التي تغطي جسدي أبقى دون ملابس، فقط قطعة قماش تغطيني، أجد أن جسمي مكشوف على ابن خالتي وهذا الأمر يتعبني نفسياً، بل أكثر من ذلك إنه يدمرني".


حتى اليوم مازالت سما لا ترفع عينيها عن الأرض في محاولة لإخفاء انكسارها، وهي التي كانت تحلم بأن تصبح مهندسة في ظل والدين ألهماها بالكثير من الأحلام والأمنيات والضحكات، كل ذلك سلبه منها صاروخ واحد أطلقه جيش الاحتلال الإسرائيلي، وها هي تعاني وحيدة، منطوية على نفسها، لا تُحادث أحداً ولا حتى أُختها لارا التي ترافقها على سريرٍ بجانبها "أشعر أنه لا فائدة مني، وأنني لن أستطيع التحرك وسأكون عالة على خالي وأخوتي، كل شيء جميل ذهب، لماذا نحن أحياء؟ لماذا لم نذهب مع والدي؟"، أسئلة كثير تطلقها الفتاة مع تنهيدةٍ تجعلك تتألم عليها، وبالرغم من تجهيز أوراق تحويلها للعلاج خارج القطاع، لم تنجح أي محاولة لإخراجها، فباتت تعيش بين إحساسٍ بالتقصير إزاء إخوتها وبين معاناتها من الألم والأوجاع في ظل ظروف لا تشعرها بالراحة على الإطلاق.

 

كرامتي بكرسيّ


سُجلت هذه الشهادة ضمن لقاءٍ أجرته إحدى صحفيات "مركز شؤون المرأة" الفلسطيني مع دعاء (اسم مستعار) في غزة بين سبتمبر ونوفمبر ٢٠٢٤ لصالح وحدة رصد قضايا المرأة في المنطقة العربية بواسطة الشبكة العربية للمجتمع المدني النسوي.

……………….

 

"أشعر بالانقطاع عن العالم"، هكذا وصفت هداية (٢٣ عامًا)، وهي من ذوات الإعاقة، حالها بدون الكرسي المتحرك الخاص بها، ولم تنفك عن الحديث عنه، باعتباره "أهم شيء في حياتها"، وكيف أثر فقدانه عليها، بعد أن استهدف جيش الاحتلال الإسرائيلي المنطقة التي تسكن فيها بالأحزمة النارية.


"في ليلة يوم الأربعاء، بتاريخ ١٨/١٠/٢٠٢٣، وقبل بزوغ الشمس، استهدف جيش الاحتلال الأرض الملاصقة لبيتنا في منطقة تل الهوا بجانب الكلية الجامعية للعلوم التطبيقية، كان هذا الاستهداف عبارة عن سلسلة صواريخ تسمى حزام ناري، كانت مرعبة جدًا، لم نستطع تحديد مكان الاستهدافات، إذ كانت متتالية وفي كل مكان يحيط بنا، لم نستطع الخروج، ولكن كلنا شعرنا بأن المنزل تبتلعه الرمال".


" توقفت الاستهدافات بعد نصف ساعة من الرعب والخوف ولكن مازال المنزل يغوص في الرمال، خرج جميع أفراد عائلتي من شدة الخوف الذي أصابهم، لم يستطع أحد التفكير بالآخر، وأنا حاولت الفرار معهم ولكن الإعاقة الحركية التي ولدت بها، جعلتني عاجزة عن إنقاذ نفسي، تثبت مكاني، رغم أنني أمتلك ذراعين قويين فأنا ألعب كرة الطائرة، وأستطيع التحكم بجسمي، لكن كل ذلك لم يشفع له لأن يتحرك في ذلك الموقف".

"بعد عشر دقائق من خلو المنزل، سمعت صوت عمي، الذي كان يلجأ عندنا مع عائلته، ينادي علي، فبادرته بالرد، جاء مسرعًا تجاهي حملني على كتفه، وكنت آخر من خرج من المنزل، ليتم قصفه بعد ذلك، ويتدمر معه كرسيي المتحرك، مما جعلني غير قادرة على مساعدة نفسي، وأنا الفتاة القوية التي أعتز بقدرتي على فعل كل شيء، وعدم الاعتماد على أحد".


"هذا الموقف غيّر الكثير في تفكيري، لم يكن موقفًا عاديًا، شعرت خلال الهروب بحجم ثقلي على العائلة، كان الجميع يتناوب على حملي، حتى وصلنا إلى مكان آمن، كنت أشعر بالاختناق من كمية الغبار والرمال التي دخلت صدري، ونزحنا في ذلك اليوم إلى مستشفى الشفاء غرب غزة، كنا جميعًا مصابين ببعض الخدوش، لكنها لم تكن خطيرة".


تتوقف (هداية) التي بدا الحزن واضحًا على محياها، تعود بذاكرتها لذلك اليوم قبل أن تواصل حديثها، "فقدنا في ذلك اليوم كل شيء من ملابس وبطانيات ومنزلنا، لقد فقدنا كرامتنا أيضًا مع فقدان كل شيء، لم نستطع أن نجلس كثيرًا في داخل المستشفى، لننزح لبيت أقارب لنا في منطقة النصر غرب مدينة غزة بعد أربعة أيام من نزوحنا قسرًا، وتحت القصف، من منزلنا".


تعرف هداية أن ما جرى معها كان محركًا أساسيًا دفع عائلتها للنزوح لجنوب قطاع غزة، "الخوف عليّ من تكرار الموقف جعل أهلي يخضعون لأوامر جيش الاحتلال بالنزوح القسري، عبر حاجز (نتساريم) يوم الخميس بتاريخ ٩/١١/٢٠٢٣، بدون كرسي متحرك، حملاً على الأيادي والأكتاف، كان المشوار طويلاً ومتعبًا، فلا طريق مُعبد، والرمال تتناثر في كل مكان مع الركام، هذا الأمر جعل كل من يحملني يشعر بالتعب، وأنا أيضاً تعبت من حمل الأشخاص لي، بعدها وصلنا إلى جنوب القطاع، وتوجهنا إلى المستشفى فقد كنت شبه فاقدة للوعي من شدة التعب".


بعد ذلك، لجأت هداية وعائلتها إلى مدرسة (بنات خان يونس)، غرب مدينة خان يونس، جنوبًا، التي تحولت لمركز إيواء للنازحين، "شعرنا بشيء من الاستقرار، لكنني كنت أحترق من الداخل فأنا عاجزة ومحبوسة بين جدران غرفة الصف، دون كرسي المتحرك، إنه الحياة بالنسبة لي، لم أستطع السكوت تواصلت مع أكثر من شخص حتى حصلت على كرسي، ولكن دون عجل، كان صدمة لي رغم فرحتي به، فليس من السهل التحرك فيه، لم أعترض وقبلت بالواقع الجديد، وبدأت باستخدامه والتعود عليه".


لم يترك الاحتلال لهداية مجال لتشعر بالاستقرار، فقد قرر اجتياح المدينة، وأمر كل من فيها بالنزوح القسري، "عشنا أيام مرعبة من القصف بالمدفعية والطائرات، واضطررنا في النهاية للنزوح من المدرسة إلى حي السلام، في مدينة رفح، عند أحد الأقارب، وكان ذلك يوم السبت بتاريخ ٢٧/١/٢٠٢٤، لقد كان نزوحًا صعبًا جدًا، وقعت على الأرض مرتين بسبب الرمال، واحتجزت لأكثر من ١٢ ساعة بعد أن سمح جيش الاحتلال لجميع عائلتي أن تمر عبر حاجز عسكري وضعوه غرب المدينة، وأمرت أن ابقى جالسة على الكرسي المتحرك، كانت الدبابات تعفر علينا الرمال وكان يومًا ممطرًا ولم أكن أمتلك ملابس شتوية، أصبت بالبرد الشديد والمرض، كما أنني أرهقت من طول الجلوس على الكرسي دون حركة وأصابني ألمٌ في ظهري".


"كان يوما متعبًا جداً، لا أستطيع نسيان تفاصيله، كانت المسافة التي قطعناها طويلة وأكثر من نصفها رمال، تعمد الجيش في ذلك اليوم إذلالنا، كنت أنا الوحيدة من النساء التي تم احتجازها وتفتيشها، كان حالي يُرثي له، ثم وصلت إلى الجانب الثاني وأنا ضعيفة مكسورة مريضة، كل جسدي يرتجف، أصابتني حمى لأكثر من أسبوع ثم سعال رافقني لأكثر من أربعة شهور، لم أستطع تلقي العلاج بسبب صعوبة تنقلي على كرسيٍ دون عجلات وهو غير مريح أيضًا، مشكلتي أن مناعتي ضعيفة وسرعان ما أصاب بالمرض ولا أشفى منه بسهولة ،لقد أصبت بالتهاب الكبد الوبائي لأكثر من شهرين وأنا أعاني منه، فلم أستطع توفير الدواء ولا الطعام المناسب ولا حتى مواد التنظيف، فالوضع المادي لعائلتي سيء للغاية، حتى أنني لم أستطع توفير ملابس شتوية تحميني من البرد الذي كان يقطع أوصالي".


رغم كل هذه الآلام لم تنتهِ هنا عذابات النزوح عند هداية، "عندما هدد جيش الاحتلال مدينة رفح، جنوبًا، نزحنا مرة أخرى لمدينة خان يونس، وسكنا في إحدى غرف (جامعة الأقصى) غرب مدينة خان يونس، وذلك يوم الأربعاء، بتاريخ ١٥/٥/٢٠٢٤، كانت عملية النزوح صعبة، وفي كل مرة كنت أفقد جزءًا من حاجياتي وطاقتي وحتى شخصيتي وكياني، في كل نزوح كنت أشعر بالضعف والقهر والحرمان، لم يتواصل معي أحد لمساعدتي أو تقديم العون لي، حتى الآن أحتاج لكرسي متحرك جيد، رغم أنني كنت معروفة، وكنت مثالاً للفتاة التي استطاعت أن تقهر إعاقتها وأن تجعل لنفسها كيانًا تفتخر به، للأسف كنت".

 

قدمٌ واحدة


سُجلت هذه الشهادة ضمن لقاءٍ أجرته إحدى صحفيات "مركز شؤون المرأة" الفلسطيني مع دعاء (اسم مستعار) في غزة بتاريخ 21/10/2024 لصالح وحدة رصد قضايا المرأة في المنطقة العربية بواسطة الشبكة العربية للمجتمع المدني النسوي.

……………….

 

تعيش سناء، (34 عامًا)، ظروفًا تدمي القلب، بعد أن فقدت ساقها اليسرى جرّاء استهداف جيش الاحتلال الإسرائيلي منزلها بقذيفتين مدفعيتين، كانت تقطن في مخيم النصيرات للاجئين وسط قطاع غزة. الحسرة والألم يملأنها، فهي لم تفقد فقط قدمها، بل فقدت منزلها أيضًا وتعيش نازحةً في خيمة بمدينة دير البلح وسط قطاع غزة.


يعمل زوج سناء ممرضًا بإحدى مستشفيات قطاع غزة، وهي أمٌ لخمسة أطفال: يامن (14 عامًا)، كامل (13 عامًا)، ياسر (11 عامًا)، محمد (8 أعوام)، وسيم (3 أعوام)، نزحت قسرًا من منزلها بمنطقة المخيم الجديد شمال غرب مخيم النصيرات، يوم الخميس 11/4/2024، بعد طلب جيش الاحتلال الإسرائيلي من السكان الإخلاء، ثم توجهت للمكوث في خيمةِ لعائلة زوجها بمدينة دير البلح وسط قطاع غزة. عانت في الخيمة كغيرها من النازحين ويلات وعذابات النزوح ومشاكله اليومية التي تفتك بصبر الانسان، وتفقده القدرة على التحمل، وتزيد من آلامه وأوجاعه أضعافًا مضاعفة، فليس بغريب على من ترك بيته وسكنه أن يقضي أيامًا وليالٍ طوال من الحسرة والندم والشوق، قبل أن تعود يوم الجمعة 19/4/ 2024 إلى المنزل، لتلاقي مصيرًا داميًا.


"في اليوم التالي وكان يوم السبت، عند الساعة 1:30 بعد الظهر، سمعنا أصوات إطلاق نار كثيفة وقذائف حولنا، طلبت بسببها من زوجي وأطفالي الخروج من المنزل، لكن ابني الأكبر (يامن)، كان جائعًا، فنحن لا نأكل إلا وجبة طعامًا واحدة في اليوم، هذا إن حالفنا الحظ واستطعنا إيجاد طعام نسد به جوع أطفالنا، طلب مني (يامن) أن نتناول طعام الغداء قبل الخروج، فلم أستطع رفض طلبه رغم خطورة الوضع، لكن القصف اشتداد، وكنا نرى جيراننا قد بدأوا بالإخلاء والهروب من منازلهم، كنت قد جهزت طعام الغداء المكون من الأرز بالعدس وتسمى المجدرة وهي وجبة (يامن) المفضلة، ، كنا ملتفين حول المائدة عندما سمعنا أول قذيفة مدفعية، وكانت ابنتي الصغيرة سيم تجلس على ساقي اليسرى، لم أكن أتوقع أن القذيفة ستأتي باتجاهنا، لكنها أصابت ساقي بشكل مباشر من أعلى عند الفخذ، من قوة الانفجار والدخان لم أكن أرى شيئًا، سيطر على تفكيري مصير أبنائي ،هل ماتوا؟، هل أصبحوا أشلاء؟، هل أصيبوا؟، هل بقي منهم أحد حيًا؟، كانت فكرة رؤيتهم مصابين أو قتلى توجعني أكثر من إحساسي الكبير بأنني فقدت ساقي التي لم أشعر بعد أنني فقدتها، ناديت أولادي وطلبت منهم الخروج من المنزل وكررت: "يا أولاد، اللي عايش يشرد"، بعد أن بدأ الدخان بالتلاشي، رأيت ساقي مليئة بالزجاج والحجارة ونافورة دماء تخرج منها، كانت ساقي محفورة بالكامل من عند الفخذ".


"كان زوجي أيضًا مصابًا في ظهره وساقه، كان يتألم بشدة إلا أنه يخفي ألمه عني وعن الأولاد كي لا نفقد قدرتنا على الخروج من الكارثة، أخرج الأطفال وعاد ليساعدني على الخروج من المنزل، لكنني كنت أناديه وأقول له: "لا ترجع، استعوض الله فيّ، القذيفة الثانية جاية"، وصرت أتشاهد -أتلو الشهادة- ودقات قلبي تزيد بصخب أعلى، كان زوجي يصرخ ويقول: "لا أستطيع تركك"، وفي تلك اللحظة جاءت القذيفة الثانية وأصابت رأسي وظهري، كانت قطع الحديد الساخن تخترق جلدي ولحمي في كل نواحي ظهري ومؤخرة رأسي، فرفعت رجلي المبتورة بيدي وتراجعت مترين للخلف، ثم بحثت عن ثوب الصلاة وبصعوبة بالغة استطعت أن أرتديه وسترت نفسي به".


استطاعت سيارة الإسعاف الوصول إلى سناء بعد أكثر من أربعين دقيقة إذ كانت من المحظوظات ، فعمل الطواقم الطبية في مناطق الاشتباكات مليء بالمخاطر، ولا يستطيعون غالبا إنقاذ الكثير من المصابين أو إجلاء الضحايا من الطرقات أو من تحت الركام، قضت سناء هذا الوقت قضته سناء منتظرة بصبر وبقلب يدعو الله بثبات وأمل، لكن ساقها كانت تفقد الكثير الكثير من الدماء.


نقلت سناء إلى مستشفى العودة بالمخيم، حيث قدمت الطواقم الإسعافات الأولية لها و أزالت الشظايا من رأسها، وحوّلتها إلى مستشفى شهداء الأقصى في مدينة دير البلح، فأرسلها زوجها هناك بسيارة خاصة، ولحقها بعدها، لكنه لمّا وصل كانت ماتزال على الأرض، فبدأ يصرخ: "مرتي رجلها مقطوعة، الحقوها!"، وبعدها فقدت هي الوعي تمامًا، وشعرت أنها ماتت وصعدت روحها إلى السماء.


"وصل دمي إلى 2، وأعطوني أكثر من 20 وحدة دم، وبعد العديد من المحاولات لتركيب بلاتين لساقي، طلبوا من أهلي التوقيع على بتر ساقي من الفخذ، لم يمتلك أحد الجرأة لاتخاذ مثل هذا القرار، خوفًا من ردة فعلي، ورأفً بحالي، إلا أنه بعد خمسة أيام في العناية المركزة، لم أنصدم حين لم أجد ساقي اليسرى، كنت فقط أريد الاطمئنان على أولادي، ولا يهم أي شيء جرى أو سيجري لي".


قضت سناء أكثر من أربعة شهور في عذاب، أجري لها خلالها تغيير على الجرح يومًا بعد يوم، تحت تخديرٍ كامل، ولم تكن هناك مسكنات أو علاجات لتخفيف الألم الفظيع الذي كانت تعيشه بسبب الجروح القاتلة، فالمنظومة الصحية في قطاع غزة تعاني من شلل، ونقص حاد بالمستلزمات الطبية، والكوادر البشرية المدربة على معالجة وإسعاف الحالات الخطرة التي تصل يوميًا بالعشرات و بالمئات إلى المرافق الصحية في ظل الحصار والتضييق والقصف.


في شهر يونيو، أخبرها الأطباء أن الجرح ما زال مفتوحًا، وقرروا أخذ رقعة من رجلها اليمنى لتغطية الجرح، فكانت العملية صعبة جدًا، والآن تنتظر توفر أي أدوية أو علاجات، كما أنها بحاجة إلى عمليات استكمالية، غير متوفرة ويجب عليها السفر لإجرائها، ناهيك عن أن معظم الأدوية والمسكنات غير متوفرة، و هذا حال معظم الجرحى في القطاع، بسبب الحصار ونقص المستلزمات مع استمرار الحرب. 


تأمل سناء أن تستطيع يومًا الخروج من غزة والسفر للعلاج في أحد المستشفيات، لكي تستطيع الوقوف على قدميها مرةً أخرى، والاهتمام برعاية أطفالها وتعويضهم عن أيام طويلة من العذابات والآلام التي يعيشونها.

 

---------

تم تفريغ وصياغة مسودة المواد من قِبل إحدى صحفيات "مركز شؤون المرأة" الفلسطيني، وحُرِرت النصوص ونُقِحت من قِبل فراس المغربي مع الحفاظ على المعلومات والتواريخ وجوهر الشهادة كما هو.