على وشك بتر قدمها
سُجلت هذه الشهادة ضمن لقاءٍ أجرته إحدى صحفيات "مركز شؤون المرأة" الفلسطيني مع دعاء (اسم مستعار) في غزة بتاريخ 26/9/2024 لصالح وحدة رصد قضايا المرأة في المنطقة العربية بواسطة الشبكة العربية للمجتمع المدني النسوي.
……………….
"كان زوجي ينادي علينا جميعًا بأسمائنا، ويسأل: من منا على قيد الحياة؟، ويخبرنا بأنه بخير وسيخرجنا من تحت الركام، لم أشعر في تلك اللحظات بقدمي اليمنى، لكني كنت أشعر بحرارة تخرج منها، وكان جسدي كله يؤلمني جدًا، ناديت على أطفالي وزوجي، رد علي زوجي، ومن ثم ابنتي سلام، لم أسمع صوت ابني حسام رغم أنه كان بجانبي لحظة الاستهداف، سمعت صوت إيلياء ويمان وهما يبكيان، ارتحت لسماع صوتهما، لكن قلبي كان مشغول على حسام".
على هذا النحو، بدأت دعاء، (٢٩ عامًا)، متزوجة وأم لأربعة أطفال، من سكان مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، رواية تفاصيل إصابتها هي وأطفالها وزوجها جراء قصف جيش الاحتلال الإسرائيلي لمنطقة سكنهما، وصعوبة العناية بهم في ظل تردي الأوضاع الصحية لحالتها.
يعمل زوج دعاء في إحدى ورش النجارة، لديها ثلاثة أولاد وبنت واحدة: سلام، (8 أعوام)، حسام، (٦ أعوام)، وإيلياء (٤ أعوام)، ويمان، (عام واحد). منذ بداية حرب الإبادة على قطاع غزة في السابع من أكتوبر 2023، كانت متواجدة في شقتهم السكنية في شارع المحكمة بالقرب من مدخل مخيم النصيرات وسط قطاع غزة.
تقول: "نزحنا قسرًا من منزلنا أكثر من مرة، لكننا كنا نعود إليه عند الهدوء، خرجنا أول مرة، يوم الجمعة 1/12/2023، وتوجهنا لمدينة دير البلح بعد أن أجبرنا جيش الاحتلال الإسرائيلي على الإخلاء، فقد أسقط علينا مناشير تطلب منا إخلاء المنطقة، لكننا عدنا بعد أسبوع، ثم تكرر خروجنا أربع مرات، بعده نزحنا لبيت أحد أقاربنا، كنا ننزح لعدة أيام ونعود لشقتنا، آخر نزوح من منزلنا كان يوم الإثنين 29/7/2024، عدنا للمنزل بعد أربعة أيام، وشعرنا بشيء من الاستقرار، فالنزوح أمر صعب ومكلف جدًا، حيث لا يمكنكِ أن تشعري بالراحة إلا في منزلكِ، بالرغم من الاستهدافات التي كانت تحدث لمخيم النصيرات، لكن البيت هو الأمن الحقيقي، والحمد الله كانت هذه الاستهدافات بعيدة عن مكان تواجدنا".
"تغير حالنا بعد استهداف منزل جيراننا من (عائلة عيد) بصاروخ، كان كزلزال دمر عدة منازل في المنطقة وخلف العديد من الشهداء والجرحى، وكان ذلك يوم السبت 7/9/2024، ومن ضمن ما دُمِرَ كانت شقتنا التي سقطت كل جدرانها على رؤوسنا دون إنذار مسبق. تحول المكان فجأة إلى كومة من الحجارة، وحل الظلام، اعتقدت أنني قد مت أو أغمى عليّ. استيقظت على صوت أحدٍ ينادي، فكان صوت زوجي".
وصل الدفاع المدني بعد نصف ساعة تقريبًا للمكان، وبدأ بإخراج العائلة التي كانت تشعر بأن النيران تلتهمها، رغم تأكيدات الجميع بعدم وجود نيران في المكان، أخرجتهم الطواقم بمشاركة الجيران، كانوا جميعًا، نساء ورجال وأطفال وطفلات، مصابين بحروق وكسور صعبة، لكن المسعفين لم يستطيعوا إيجاد ابنها حسام الذي كانت تسأل عنه. بعد أن بدأت تستوعب الموقف، أجاب جميع من سألت عن حسام بأنه بخير، لكن زوجها أخبرها فيما بعد أن حسام وُجدت جثته ملقاة في بيت جيرانهم وهو مفارقٌ الحياة.
تتابع دعاء بحرقة: "بكيت بشدة، ومن حزني الكبير على طفلي لم أعد أشعر بألم ساقي وأوجاعي الأخرى، كان قلبي يعتصر ألمًا على فراقه، وأصيبت ابنتي إيلياء بحروق في أطرافها، أدت إلى بتر قدمها اليمنى وكف يدها اليسرى وكانت تحتاج إلى علاجات وغيارات غير متوفرة في مستشفى (شهداء الأقصى) الذي نتواجد به".
حزن دعاء على أحبابها لم ينتهي هنا، فابنها سلام أصيب بحروق في الأطراف من الدرجة الرابعة وكان بحالة سيئة جراء التهاب الحروق بشكل مستمر، فلا تتوفر مراهم أو مضادات حيوية تساعد على الشفاء وفق ما أخبرهم به الأطباء، فالصاروخ حارق جدًا، أما ابنها يمان فأصيب بحروق في الوجه، والزوج أصيب بحروق مختلفة في الأطراف.
"أصبت بكسر مضاعف في رجلي اليمنى بالإضافة إلى حروق من الدرجة الرابعة، بمعنى أنه لا يوجد عضلات في رجلي من شدة الحرق، هذا الجرح لا يلتئم بسهولة، يحتاج بعد شفاء العظم من الكسر، إلى إجراء عمليات ترقيع وزراعة عضلات، وهناك عدد من الحروق في باقي جسدي، كذلك أصابني كسر بحوضي لكن وضعه مستقر، وقد توافق الأطباء بعد مرور سبعة أيام على ضرورة بتر قدمي، ولم يعترض زوجي وقام بالتوقيع، خوفاً على حياتي، إذ لم يكن يتوفر علاج لرجلي داخل المستشفى، ولكن يسر لي الله وفداً طبياً، يوم الجمعة بتاريخ 20/9/2024، أُجري لي عملية ترقيع، وكانت هي العملية الخامسة لمحاولة إنقاذ الرجل من البتر".
مرت دعاء بأوضاع صحية ونفسية سيئة، فلم يتوفر غرفة خاصة داخل المستشفى، وقد وضعتها الطواقم الطبية مع إيلياء في ممر بالطابق الثالث، أما زوجها وطفليها الآخرين فكانا في ممر بالطابق الأرضي، مما يعني فقدانهم جميعاً كامل الخصوصية.
"لا أستطيع التحرك بمفردي وأحتاج لمن يساعدني على الحركة، وتتناوب أخواتي وزوجات إخوتي على زيارتي لمساعدتي منعًا من إصابتي بالتقرحات بسبب طول فترة الاستلقاء، أفكر كثيرًا في أطفالي وحاجاتهم وبشكل خاص يمان وإيلياء فهما بحاجة أمهم بجانبهما، فزوجي هو من يهتم بهما بالرغم من الحروق التي يعاني منها، يخبرنا الأطباء بصعوبة علاجنا أنا وإيلياء، وحاجتنا للعلاج في خارج القطاع، فقد قام الطاقم الطبي بتجهيز أوراقنا حتى نتمكن من استكمال العلاج في أحد المستشفيات في الخارج، و مازلنا ننتظر أن يُسمح لنا بالسفر والعلاج".
أخبَرَ الأطباء العائلة أن إيلياء ما تزال بوضع سيء جداً، وفي حال عدم توفر العلاج المناسب لها لن يكون كافياً ما تم بتره من أطرافها سابقاً، وسيضطرون لإجراء عملية بتر لرجلها ويدها بالكامل بسبب كون الحروق من الدرجة الخامسة، تتابع دعاء: "أفكر في قدمي حيث إن لم يتم معالجتها بطريقة صحيحة سيتم بترها أيضًا، هناك الكثير من الكلمات التي يصعب أن أتحدث بها، ولكوني امرأة أجد أن كل ما أمر به هو من الأمور الصعبة والمتعبة نفسيًا، فأنا اعتدت أن أكون شعلة من النشاط، وكنت أهتم كثيرًا بكل تفاصيل أطفالي وزوجي، أما اليوم بتت عاجزة ولا أعلم هل سأفقد ساقي وأصبح مقعدة بشكل دائم بعد ذلك؟".
…………
تم تفريغ وصياغة مسودة المادة من قِبل إحدى صحفيات "مركز شؤون المرأة" الفلسطيني، وحُرِرت المادة ونُقِحت من قِبل فراس المغربي مع الحفاظ على المعلومات والتواريخ وجوهر الشهادة كما هو.