موت متكرر
هـ. ش. (٤٥ عامًا)، صحافية من غزة انفصلت عن زوجها في ٢٠١٩، أم لثلاثة أبناء ، ابنتها الكبرى (٢٩ عامًا)، متزوجة ولديها ثلاثة أطفال، وابنها الأوسط (٢٧ عامًا)، متزوج ولديه طفل وينتظر طفل آخر، وابنها الأصغر (١٩ عامًا)، أعزب. منذ بدء حرب الاحتلال على القِطاع فقدت زوج ابنتها، ومن ثم طليقها، ومن ثم ابنها، وهُجِرت قسراً مع من تبقى من أسرتها عدة مرات وعاشت حالة نزوحٍ متكرر بحثاً عن سبيلٍ لنجاة من تبقى من أسرتها.
سُجلت هذه الشهادة ضمن لقاءٍ أجرته إحدى صحفيات "مركز شؤون المرأة" الفلسطيني مع هـ. ش. في غزة بتاريخ ٢٩/١٠/٢٠٢٤ لصالح "وحدة رصد قضايا المرأة في المنطقة العربية" بواسطة "الشبكة العربية للمجتمع المدني النسوي.
"ليس الفقد بكلمة بسيطة، لن تعرف معناها إلا من عاشته، إنه مزيج من الألم والقهر الذي ينخر في قلبك وينتقل إلى عقلك حتى تصبحين غير قادرة على استيعاب ما يحدث معك"، هكذا بدأت هـ. حديثها، تتنهد قبل أن تبدأ بأي جملة وتتنفس الصعداء حين تُنهيها.
"بعد انفصالي عن زوجي عام ٢٠١٩، قررت أن أعيش مع أهلي في شارع الوحدة وسط مدينة غزة. كان أولادي يعيشون لمدةٍ عندي وأخرى عند والدهم الذي يسكن في حي الشيخ رضوان، أما ابنتي المتزوجة فكانت تسكن في حي الزيتون قرب شارع صلاح الدين. عملتُ خلال تلك الفترة مع الشبكة العربية للثقافة والرأي والإعلام، وكنت أغطي الأحداث بشكل يومي من مستشفى الشفاء".
تعرضت هـ. لعدة صدماتٍ قاسية كانت أولها يوم الأحد ٢٠٢٣/١٠/٢٩، عندما "كان زوج ابنتي يعمل داخل سوبر ماركت في شارع صلاح الدين شرق مدينة غزة، واستهدف جيش الاحتلال الإسرائيلي الشارع بحزام ناري مفاجئ لتصيبه شظايا صاروخ في الصدر والرقبة أدت إلى استشهاده عن عمر ٣٠ عامًا".
وصل إليها خبر أن هناك حزام ناري ضرب منطقة الزيتون بشكل صاعق وتم نقل عدد من الشهداء إلى مستشفى الشفاء، "ذهبت مسرعة لثلاجة الموتى، تجمدت في مكاني عندما شاهدته ملقى على الأرض، حاولت أن أتماسك وفي رأسي ألف سؤال: كيف أُخبر ابنتي؟ من سيعتني بها وبأطفالها؟ إنها حامل في الشهر السادس. هل سيتسبب الخبر بفقدان الجنين؟ وأسئلة كثيرة أخرى".
خرَجت مسرعة من المكان لتغطي الخبر، ومن ثم سارعت في الذهاب إلى بيت ابنتها، "وجدُتها منهارة، تبكي بشكل جنوني، جلست معها أواسيها، بينما أحاول مواصلة عملي، خلال تلك الفترة لم أشعر بالراحة قط، كان الضغط النفسي كبير جدًاعلي بين مواظبتي على العمل والوقوف إلى جانب ابنتي ومواساتها".
في اليوم الرابع من استهداف زوج ابنتها، وصلها خبر جديد عن استهداف جيش الاحتلال الإسرائيلي لمنزل في منطقة الشيخ رضوان لعائلة والد أبنائها، فتوجهت إلى المستشفى لتغطية الحدث من أمام باب قسم الطوارئ. كانت تردد بينها وبين نفسها في حالةٍ من التأهب والقلق "يا رب ما يكون بيتهم هو المستهدف!".
تصف هـ. صدمتها حين "كان أقارب أبنائي يصلون واحداً تلو الآخر. لقد استهدف جيش الاحتلال باب منزلهم بصاروخ استطلاع، وخلال محاولة والد أبنائي ومن معه من الأسرة والنازحين من إخوته وأخواته الفرار من المنزل، استهدفهم جيش الاحتلال بصاروخ آخر، تسبب هذا الاستهداف الواقع في يوم الخميس ٢٠٢٣/١١/٢، بإصابة طليقي إصابة بالغة، استشهد على إثرها بعد مرور ٢٤ ساعة، كما استشهد وأصيب العشرات من أفراد أسرته. كان الخبر صعب جداً علي وعلى أولادي وبشكل خاص على ابنتي التي كانت ما تزال تحت صدمة استشهاد زوجها لتتلقى نبأ استشهاد والدها وهي كانت المدللة لديه".
كانت تلك الفترة من أقصى الفترات على هـ. "كانت مشاعر الألم والحزن مسيطرة علينا، ليخبرنا القدر أنه مازال هناك متسع من الحزن. اختلطت كل الكلمات والمشاعر في داخلي، كنت جالسة في خيمة الصحفيين في ذلك اليوم، جاء ابني لزيارتي حتّى أناظرَ قَصة شعره الجديدة، احتضنته وأثنيت على تلك القَصة، ثم خرج من المستشفى مسرعًا، فأصابته رصاصة من طائرة الكواد كابتر، يوم الخميس ٢٠٢٣/١١/٩".
قلب الأم جعلها تشعر بوخزٍ في صدرها "وقفت عندما سمعت صوت إطلاق الرّصاص لأسمع أن هناك مصاب، ركضت تجاه باب المستشفى، صرخت بأعلى صوتي: "يا رب" حتى سمعني كل من في المستشفى. خرج صوتي من أعماق قلبي: "إنه ابني". كان محمولاً على الأكتاف لإيصاله إلى قسم الطوارئ. حاولت أن أصل إليه وألمسه فلم أستطع. أُصبتُ بانهيارٍ عصبي حاول الجميع تهدئتي ولكن الخبر الصاعق كان عندما خرج الطبيب معلناً استشهاده. لم تتحمل ساقيّ الخبر فهوت وأغمي علي."
تتنهد هـ. وتكمل "رغم كل الألم، كان جُلُ تفكيري في ابنتي، كيف ستتلقى الخبر؟ لم أستطع في ذلك اليوم إكمال عملي، عدت إلى بيت أهلي وأنا في عالم آخر، يواسيني الجميع وأنا مذهولة، كيف يمكنني أن أتحمل كل هذا الأسى وأن أكون قوية في نفس الوقت".
لم تستطع هـ. أن تبقى في غزة، "كنت أتنفس رائحة الدماء في كل مكان، في اليوم الثاني بعد دفن ابني قررت الانتقال مع ابنتي وأطفالها وابني الآخر وزوجته وطفله إلى جنوب القطاع، فالخوف من فقدان أحدهم كان هاجسي في ذلك الوقت".
"نزحنا يوم الجمعة ٢٠٢٣/١١/١٠، إلى بيت أقارب لي في مخيم البريج وسط القطاع، وبعد أربعة أيام نزحنا من جديد إلى بيت صديقةٍ لي في مدينة دير البلح، كنتُ عصبية وسريعة الانفعال لم أستطع السيطرة على حزني ومُصابي، فقررتُ البحث عن شقة ووجدت واحدة في خان يونس فاستقرينا فيها".
تطلق هنادي زفرة من فمها، "لا يعطي جيش الاحتلال الإسرائيلي أي مجال للراحة والهدوء النفسي أو الجسدي ، لقد فرض علينا النزوح مرة أخرى ولكن هذه المرة تحت القصف والاستهداف المتكرر وذلك يوم الأحد ٢٠٢٣/١١/٢٤. يومها فقدت جهازي الحاسوب المتنقل الخاص بالعمل لننزح مجدداً إلى مدينة رفح حيث مكثنا داخل مؤسسة لذوي الإعاقة، شعرتُ هناك بشيء من الاستقرار، حاولت أن أضع أحزاني جانباً فأنا المسئولة عن توفير احتياجات كل من نزح معي".
كرر جيش الاحتلال انتزاع الأمن والراحة من حياة هـ. فمع تهديد مدينة رفح نزحت ومن معها يوم الأحد ٢٠٢٤/٥/٥ إلى المواصي غربي مدينة خان يونس، حيث أقاموا خيمة وسكنوا فيها، "لم نبقى على تلك الحال طويلاً فلم نشعر بالأمن أو الاستقرار وخصوصاً وأن المنطقة استُهدِفت من قِبَلِ الاحتلال أكثر من مرة، فنزحنا إلى حي المشاعلة في مدينة دير البلح يوم الجمعة ٢٠٢٣/٥/١٠، وها نحن اليوم ".
"ما أحمله من مسئوليات تفوق أي قدرات، أنا مسئولة عن نفسي وعن كل هؤلاء." مشيرة إلى من معها "الأطفال يحتاجون للحليب والحفاضات وأن أوفر لهم الحد الأدنى من الاحتياجات وخاصة الطعام واللباس في ظل وضع مادي سيء، فأنا حاليًا لا أعمل وأقف عاجزة أمامهم وهو أصعب شعور"، تركناها وهي مازالت تطلق التنهيدات التي ملأت صدرها.
..............
تم تحرير المادة من قِبل رهام قنوت رفاعي مع الحفاظ على المعلومات والتواريخ وجوهر الشهادة كما هو.